نعيش جميعاً تحت وطأة وهم كبير يُسمى “نظافة المطبخ الظاهرية”. نعتقد أن غسل اليدين واستخدام ألواح تقطيع منفصلة كافٍ لحمايتنا من التسمم الغذائي، لكن الواقع الطبي يكشف وجهاً آخر أكثر تعقيداً. الحقيقة الصادمة التي يغفل عنها الكثيرون هي أن التسمم لا يأتي دائماً من مطاعم الوجبات السريعة المشبوهة، بل قد يُطبخ ببطء داخل منازلنا عبر عادات صغيرة نعتبرها روتيناً يومياً غير ضار.
وفي تقارير طبية حديثة، حذر متخصصون في علم الأمراض المعدية من أن “الاختصارات الصغيرة” التي نلجأ إليها أثناء الطهي قد تكون السبب المباشر وراء حالات تسمم خطيرة، محولين المطبخ من واحة للأمان الغذائي إلى بيئة خصبة للبكتيريا.
فخ “الأرز” وملقط الشواء
قد يبدو الأمر بسيطاً، لكن ترك الأرز المطهو ليبرد ببطء في درجة حرارة الغرفة لفترة طويلة يُعد خطأً فادحاً. يشير الخبراء إلى أن بكتيريا “العصوية الشمعية” (Bacillus cereus) تجد في الأرز بيئة مثالية. الخطورة تكمن في أن هذه البكتيريا تفرز سموماً لا تتأثر بالضرورة بإعادة التسخين، مما يؤدي إلى نوبات قيء مفاجئة وسريعة، أو إسهال شديد بمجرد وصول السموم إلى الأمعاء.
وكذلك الحال مع ملقط الشواء؛ استخدامه لتقليب اللحم النيئ ثم العودة لاستخدامه لنقل اللحم الناضج دون غسله وتعقيمه، ينقل البكتيريا مباشرة من الحالة النيئة إلى طبقك الجاهز للأكل.
خرافة غسل الدجاج وكارثة “البرغر”
من أكثر العادات شيوعاً وإثارة للجدل، والتي يروج لها أحياناً عبر منصات التواصل الاجتماعي، هي “غسل الدجاج” قبل طهيه. يحذر المتخصصون بشدة من هذا السلوك، مؤكدين أن غسل الدجاج لا يجعله أنظف، بل يساهم في نشر الرذاذ المحمل بالبكتيريا (مثل العطيفة أو السالمونيلا) على حوض المطبخ، الأسطح، وحتى الأواني المجاورة، مما يوسع دائرة التلوث بدلاً من حصرها.
وفي سياق متصل، يجب التمييز بحذر بين شريحة اللحم (الستيك) واللحم المفروم (البرغر). بينما يكفي طهي الستيك من الخارج لقتل البكتيريا السطحية، فإن اللحم المفروم يحمل البكتيريا في كل جزء منه نتيجة عملية الفرم. لذا، فإن طلب شطيرة برغر “نصف مطهية” (Medium-rare) يُعد مغامرة صحية غير محسوبة العواقب، حيث يجب طهي اللحم المفروم طهياً كاملاً لضمان القضاء على الميكروبات.
حرب الأمعاء: متى تصبح المضادات الحيوية “عدواً”؟
عند الإصابة بالتسمم، يهرع الكثيرون إلى المضادات الحيوية، وهو تصرف قد يفاقم المشكلة بدلاً من حلها. يوضح أطباء الأمراض المعدية أن البكتيريا تختلف في سلوكها؛ فبعضها يهاجم بطانة الأمعاء بشكل حلزوني، وبعضها يفرز سموماً. في كثير من الحالات، استخدام المضادات الحيوية قد يزيد الوضع سوءاً ولا ينصح به إلا في حالات محددة جداً وتحت إشراف طبي صارم.
النجاة والوقاية
القاعدة الذهبية تظل ثابتة: الوقاية خير من العلاج. تبريد بقايا الطعام بسرعة (في غضون ساعتين)، طهي اللحوم لدرجات حرارة آمنة، وبالطبع غسل اليدين بفعالية، هي خطوط الدفاع الأولى.
أما في حال حدوث الإصابة، فإن العدو الأول ليس البكتيريا ذاتها بقدر ما هو “الجفاف”. يوصي الأطباء بالتركيز على تعويض السوائل والأملاح المفقودة، واللجوء إلى حمية “BRAT” (الموز، الأرز، عصير التفاح، والخبز المحمص) لتهدئة المعدة. ورغم أن معظم الحالات تمر بسلام بفضل جهازنا المناعي، إلا أن الاستهتار قد يؤدي لمضاعفات نادرة وخطيرة وتسمم الدم، أو متلازمات معوية طويلة الأمد.
المطبخ هو قلب المنزل، فلنجعل نبضه سليماً عبر الوعي بتلك التفاصيل الصغيرة التي تصنع الفارق بين وجبة هنيئة وليلة في غرفة الطوارئ.