يحلّ الربيع حاملاً معه دفء الألوان ورقّة النسيم، فيبعث الحياة في الأرض والناس معاً. وفي مراكش، كما في سائر المدن العتيقة بالمغرب، يشكّل الربيع مناسبة استثنائية يتقاطع فيها الاجتماعي بالفني والثقافي، حيث تتجدّد روابط السكان مع موروثاتهم المتجذرة في الذاكرة والوجدان.
التراث المراكشي: التزام جماعي بالحفاظ على الهوية
لطالما كانت الثقافة ركيزة من ركائز العيش المشترك، ومنبعاً لتقوية العلاقات الاجتماعية. ومنذ قرون، تعهّدت مراكش، مدينة الدولتين المرابطية والموحدية، بصون إرثها اللامادي. فقد بادر سكانها إلى تأسيس جمعيات تعنى بحماية فنون الملحون، والدقة المراكشية، و”الطقطقيات”، وهي أغانٍ شعبية مرتجلة نابضة بروح المكان.
تتحوّل المناسبات الدينية والموسمية إلى منافسات فنية بين الأحياء، حيث يتباهى كل حيّ بإبداعه الموسيقي وجودة أدائه. معبّرين عن هوية “الحومة” وقيمها.

نزاهة مراكش: طقس شعبي متجدد رغم زحف الإسمنت
من بين أبرز هذه التقاليد، تبرز “النزاهة” كنزهة عائلية سنوية إلى أحضان الطبيعة خارج أسوار المدينة. إنها فسحة للراحة، والتواصل مع الأرض، واستعادة الأواصر العائلية والاجتماعية أيضا . غير أن هذا التقليد العريق تأثر سلباً بزحف العمران، الذي التهم جزءاً كبيراً من الأراضي الخضراء والمساحات الفلاحية المحيطة بالمدينة.
جهود فردية لصون الذاكرة الجماعية
رغم التحديات، استمرّ بعض الفاعلين الثقافيين في حمل مشعل التراث. من أبرزهم الأستاذ عبد الله شليه، الذي أسّس سنة 1964 جمعية تعنى بحفظ فن الملحون. اعتمدت الجمعية أسلوب اللقاءات الدورية داخل بيوت الأعضاء، بعيداً عن كل اعتبارات اجتماعية. لتوثيق القصائد والألحان، وضمان انتقالها من جيل إلى جيل.
تقرؤون أيضا : نيللي كريم تتألق في الدورة 25 من “أسبوع القفطان” بمراكش

نزاهة اليوم: احتفاء بالحياة تحت سماء مراكش
في السنوات الأخيرة، استعادت النزاهة ألقها بفضل مبادرات فردية صادقة. في إحدى المزارع التي تعود ملكيتها للحاج البوعمري، العضو الفاعل في جمعية عبد الله شليه، يقام هذا الموعد الربيعي السنوي. الحاج، المعروف بشغفه بالثقافة وتقديره لقيم التربية، يفتح أبوابه للجميع دون تمييز، فيلتقي في مزرعته المثقف بالحرفي، ويتشاركون حب الفن الأصيل.

منذ ساعات الصباح الأولى، يحتفي الحضور بالموسيقى، ويتذوقون أطباقاً مغربية أصيلة مثل الطنجية والمشوي والحلويات التقليدية. في أجواء بهيجة يتناغم فيها الصوت، والرائحة، والروح.
MFM تسلط الضوء على الحدث
ولأن مثل هذه المبادرات لا يجب أن تبقى في الظل، قررت إذاعة MFM مواكبة هذه التظاهرة الثقافية، مخصّصة تغطية واسعة للحدث. فتحت الإذاعة المجال للباحثين والفنانين والكتّاب للحديث عن عمق هذه التقاليد. والرمزية التي تحملها، و أيضا عن ضرورة استمرارها في ظل التغيرات التي يعرفها المجتمع.
الثقافة لا تموت ما دام هناك من يحملها
إن حضور الثقافة في الفضاءات العامة، وبين الناس، هو ما يمنحها الحياة. ويؤكّد هذا الحدث أن التراث ليس مجرد ماضٍ يروى، بل أيضا ممارسة يومية وذاكرة حيّة. يحييها أشخاص يؤمنون برسالتها، ويضحّون من أجلها، لتظل مراكش دائماً مدينةً للروح، والفن، والإنسان.