يصعب تحديد عدد عاملات الجنس في المغرب، على الرغم من الإحصائيات التي اجتهدت عدد من المنظمات الدولية في إصدارها. عدد من الجمعيات التي تعنى بشؤون المرأة تؤكد انعدام أي معطيات حول عدد النساء الممتهنات للدعارة، على اعتبار أنها مهنة غير قانونية ، وتتخذ أشكالا وأنواعا مختلفة، لذلك تبقى الأرقام المعلن عنها غير موثوقة.
في عام 2015، قامت وزارة الصحة بعمل ميداني في أكبر المدن المغربية، منها الرباط وأكادير وطنجة وفاس، وأسفرت نتائج التقرير عن وجود ما يقارب 19 ألف عاملة جنس.
وأضاف التقرير نفسه أن تمركز عاملات الجنس يوجد في العاصمة الرباط، محتلا الصدارة بوجود 7333 عاهرة.
وأورد تقرير وزارة الصحة أرقاما ومعطيات أخرى، تفيد بأن نسبة المتزوجات من هؤلاء النساء يبلغ 2 في المائة من بين 19 ألف عاملة جنس، فيما أغلبهن مطلقات أو أرامل، كما أنه ما بين 50 و80 في المائة منهن يُعِلن أشخاصا آخرين.
على الرغم من أن التقرير استفاض في تقديم معلومات عن بائعات الهوى وأعمارهن، وعلى المبالغ التي يكسبنها من هذه المهنة، بالإضافة إلى أنواع الزبائن وطريقة وأماكن ممارستهن لما يسمينه بعضهن “مهنة المغامرة”، إلا أنه أغفل نوعا من النساء الكبيرات في السن واللواتي يمارسن المهنة في سرية تامة.
***
هن سيدات بندبات ظاهرية وباطنية، نال الزمن من جمالهن شيئا فشيئا، ولكنهن قاومن الشيخوخة وتمسكن بالمقولة الشعبية “إذا مشى الزين كيبقى حروفو”.
بعضهن في بداية الخمسينات وأخريات على مشارف السبعينات. مظهرهن لا يطابق أعمارهن، فقد حاربن التجاعيد بالزيوت الطبيعية، وغطين الشيب بألوان شبابية، ورسمن ملامحهن بمساحيق التجميل، أما الترهلات التي أصابت أبدانهن فيكفي أن يقمن بإخفائها بتقنيات مختلفة. “بعض الروتوشات تفي بالغرض، وأصبح بعدها كأني في العشرينات” تقول إحداهن لمجلة لالة فاطمة.
وبعيدا عن الروتوشات بعض النساء اخترن الطابع البلدي فلم يستغنين عن الجلابة، ولا إشكال في ظهور التجاعيد والشيب وكل الخطوط التي بصمها الزمن وهو يتقدم بهن في السن.
زوجي السبب
فاطمة، هي جدة بحفيدين، ما تزال تمارس الدعارةّ، امرأة غير متعلمة، يكفي أن تطرح عليها السؤال لتجيب بكل عفوية وبصراحة، تقول إنها لا تخاف من أحد، ولا تهتم بما يقوله الناس. حين تسألها عن عمرها تجيب “لا أدري” وتستدرك قائلة “والدتي كانت تخبرني أني ولدت في السنة نفسها التي عاد فيها الملك الراحل محمد الخامس من المنفى.
على الرغم من بعض التجاعيد التي رسمت على محياها، إلا أن الزمن لم ينل بعد من حسن مظهرها، تبدو فاطمة بوجهين، بالنهار يبدو التعب واضحا على وجهها، أما ليلا فتستعيد نشاطها وأناقتها.
قصة الجدة فاطمة تختصرها في كلمتي لوم وعتاب، حيث تعتبر أن زوجها هو السبب في انحرافها. فاطمة فتحت قلبها لمجلة لالة فاطمة، فحكت قصتها كاملة متوقفة عند كثير من التفاصيل. تقول فاطمة إنها أنجبت من زوجها طفلين، عندما بدأ يكبران تغير حاله، فأصبح يغيب عن البيت مدة طويلة، ويشرب الخمر، وعلمت فيما بعد أنه يخونها مع امرأة أخرى.
تؤكد فاطمة في تصريحاتها أنها حاولت الاشتغال وكسب لقمة العيش بالحلال لكنها فشلت، فلم تجد أمامها في آخر المطاف إلا العمل في إحدى الحانات كعاملة نظافة بمدينة القنيطرة، وبعدما أقفلت الحانة أبوابها لأسباب تجهلها، وجدت نفسها عاطلة عن العمل وبطفلين وبزوج غير مسؤول بل “غير موجود”.
لم يكن أمام فاطمة على حد قولها خيار آخر، كان عليها إعالة ابنيها بأي طريقة، وفيما بعد ألقيت على عاتقها مسؤولية جديدة، تقول “كنت جميلة وفي قوام رشيق، ولم أكن أخشى شيئا، فقد كنت أتمتع بصحة جيدة، أما الآن فأنا مصابة بمرض القلب وداء السكري.. أشياء كثيرة تغيرت”.
وتابعت فاطمة حديثها موضحة أسباب استمرارها في هذه المهنة على الرغم من تقدمها في السن ومرضها قائلة، “مجبرة على الاستمرار لأن ابني لا يشتغل وهو متزوج وله بنتان، لا أحد يعيل هذه الأسرة غيري، ابني مدمن على الحشيش، وزوجته مصابة بمرض السرطان، وأنا من يدفع لها مصارف العلاج، وأنا من يتكفل بمصاريف دراسة أبنائه، أما ابنتي الثانية فقد تزوجت وتعيش حياتها”.
كنت أطمع في حياة أفضل
عكس الجدة فاطمة، لم يكن سهلا على إكرام، في بداية الخمسينات، أن تبوح بسرها، هي متكتمة في الوهلة الأولى، نظراتها تمزج بين البراءة والمكر، ولكنها انتهت بسرد قصتها بتحفظ شديد. خلال حديثها مع لالة فاطمة لم تكف عن سب المجتمع والظروف..
تحكي إكرام، عن الفقر والقهر الذي عاشته في أحد الأحياء الصفيحية بالرباط، كان والدها يشتغل أحيانا ويتوقف عن العمل لمدة طويلة، أما والدتها فكانت تشتغل في المنازل لتعيل الأسرة. قررت إكرام أن تغير من وضعها الاجتماعي، لذلك بدأت ترتاد على الحانات والعلب الليلية والمقاهي وعدد من الأماكن التي يلتقي فيها من يرغب في التعرف على شخص جديد.
تقول إكرام، إنها كانت تعتقد أنها ستحصد مالا وفيرا يجعلها تعيش كالملكة، لكنها بعد فترة فهمت الدرس، حيث إنها تنفق مالا كثيرا في الزينة، وبسخرية تضيف “حيث إني لست من الجميلات، وببشرة غامقة، كان من الضروري “ندور براسي باش نجيب الكليان”.
وفيما يتعلق بالأجر الذي كانت تكسبه إكرام، تقول إنه فيما مضى كان الأجر لا يزيد عن 200 درهم لليلة، وقد لا يتجاوز 50 درهما.
ما تزال إكرام تضع أحمر الشفاه بلون فاقع يلفت الانتباه بالنسبة لامرأة في سنها، خاصة في مجتمع محافظ لا يسمح للسيدات المتقدمات في السن أن يتبرجن بتلك الطريقة، كما لا تزال ترتدي التنورة وتخرج إلى شوارع أكدال في أوقات متأخرة بالليل ليأتيها “صاحب الحال” كما وصفته.
تقول إكرام كل أنواع الرجال مباحين، صغارا أو كبارا، ولكنها تفضل الأقرب إلى عمرها على حد قولها، منهم المتعلمون ومنهم من بالكاد لديه الأجر الذي سيدفعه لها.
طيش الشباب ورفقة السوء
لم يكن من السهل عليها رواية قصتها، تتحدث كثيرا عن قساوة الحياة ومعاناتها منذ كانت شابة متفادية إقحام الرجل في حديثها. بعد مناورات ومحاولات تعترف أنها منذ سنوات وهي “كتقلب على راسها” حتى تتمكن من العيش، لأنها وحيدة، وغير متعلمة، وليست لها أي حرفة يمكن أن تعيش منها.
طيش الشباب ورفقة السوء قادتاها إلى امتهان الدعارة. تقول بشرى التي ترتدي معطفا بنيا فوق جلبابها، إنها لم تتمكن من تأسيس أسرة لأن سمعتها تلطخت، فوجدت نفسها تتقدم في السن ولا شيء تعرفه غير معاشرة الرجال.
تعترف بشرى، وهي في أواخر الخمسينات، أنها كبرت على ما تقوم به، مشيرة إلى أنها تعيش بهذه المهنة منذ سنوات طويلة لا تكاد تتذكر عددها، وبتحسر كبير وباستسلام أكبر تقول إنها تمتهن أسوأ مهنة في الوجود، لأنها بلا مستقبل، وبلا ضمانات.
تعيش بشرى حاليا في أحد الأحياء الشعبية بسلا، تكتري بيتا تلجأ إليه بالنهار وتغادره لتخرج من أجل البحث عن “رزقها” ليلا على حد تعبيرها.
تقول بشرى إنها لم تستطع التخلي عن حياة الليل لأنها تعودت عليها، كما أنها أصبحت مدمنة كحول ولا تستطيع شراءه بنفسها، وأما الرجل فهو مجرد وسيلة للحصول على جرعتها اليومية من الكحول، وعلى جزء من المال تدفع به الإيجار وتعيش به.
رأي علم الاجتماع
ويقول عزوز التوسي أستاذ علم النفس الاجتماعي إن تقمص مهنة الدعارة بالنسبة للسيدات المتقدمات في السن لها وراء نفسية وكان هذا تعليقه:
في البداية أريد أن أشير إلى أن الفتيات في فترة الطفولة عندما يسألن ماذا تردن أن تكن في المستقبل، ليس هناك منهن من تقول أنها تريد أن تصبح عاهرة، ولكن البعض منهن يصبحن كذلك بفعل مجموعة من الظروف التي لا ينبغي ربطها بالعامل الاقتصادي، لأنه سيكون هناك تحليل خاطئ. مجموعة من الدراسات أثبتت أن السقوط في الدعارة لا يكون مرتبطا بعوامل اقتصادية دائما، ولكنه في كثير من الأحيان قد يكون لأسباب نفسية، وإلا فإن كل الفقيرات سيصبحن داعرات بطريقة أو بأخرى.
استمرار التعاطي للدعارة رغم كبر سنهن ليس بسبب العامل الاقتصادي، بل هناك عوامل نفسية وهناك أيضا تقمص المهنة، في كثير من الأحيان الانخراط في تجارة الجنس مثل البالوعة، حيث تجد الممارسة صعوبة للخروج من بوتقته. السبب قد يكون استمرارية نفس الأسباب التي أدت إلى التعاطي في البداية، وقد فسر علماء النفس ذلك بأن هؤلاء النساء غالبا ما يبحثن عن طفولتهن وأنوثتهن من خلال ممارسة الدعارة.
هناك أيضا بعض الدراسات التي أثبتت أن النساء يردن الانتقام من الرجال من خلال التعاطي لهذه المهنة، بمعنى أن هناك عوامل لا شعورية أحيانا تتدخل في الانتماء إلى هذا المجال.
إذن، العامل الاقتصادي ليس إلا مبررا لما يمكن أن يكون على المستوى الشعوري واللاوعي. بالطبع، يكون العامل الاقتصادي عاملا مفجرا، ولكن في الأصل هناك عوامل أخرى أعمق بكثير من العامل المادي.
على الرغم من أن الدعارة ترتبط بالتخلي عن قيمة الذات وتنجم عنها مجموعة من الاضطرابات، إلا أن هؤلاء النساء يستمررن في ممارسة المهنة نظرا لعوامل أقوى منهن، حيث هناك نساء يرغبن في التخلص من هذه البؤرة، ويمارسن مهنا أخرى، لكنهن في الأخير يمارسن الدعارة كمهنة موازية، وتجد لنفسها ما يبرر ذلك بسبب الراتب الذي لا يكفيها.
مترتبات ممارسة هذه المهنة بالنسبة للنساء الكبيرات في السن لا فرق بينها وبين الممارسات الشابات، حيث تعتبر جسدها مدنسا، وتقدير الذات يكون منهارا أو ضعيفا جدا، أما المجتمع فهو لا يرحم ونلاحظ بالتالي أن هناك نوعا من التمييز، وقد يتفاقم هذا الوصم كلما ارتفع سن الممارسة، لهذا نلاحظ أن بعض النساء ينتقلن من ممارسة الجنس إلى المتاجرة في فتيات صغيرات. من جهة أخرى نجد أن هناك نوعا من النفاق الاجتماعي، حيث نجد أن هناك نوعا من التعايش في بعض المدن المعروفة تاريخيا بـ”المنازل المغلقة” على اعتبار أنهن يحققن موردا للمنطقة، وبالتالي يساهمن في تنشيط الاقتصاد.