هناك من اعتبرها أيقونة القضاء المغربي وصوت المرأة المغربية في السلك القضائي، أطلقوا عليها ”المرأة الحديدية”، لأنها استطاعت الوقوف أمام المجتمع الذكوري لتؤكد له أن المرأة تمكنت من اختراق كل المجالات التي كانت بالأمس حكرا عليه. حققت في زمن وجيز نجاحا مهنيا وجمعويا لافتا، وحملت على عاتقها أمانة الدفاع عن حقوق المواطنين، فأحس الناس من خلالها بكفاءة المرأة القاضية وجديتها وكفاءتها المهنية المتميزة. عملها كـ”قاضية” لم يلهيها عن الانخراط في العمل الجمعوي، فأطلقت جمعية خاصة بالقاضيات”الجمعية المغربية للمرأة القاضية”. إنها الأستاذة القاضية عائشة الناصري، عضو المجلس الأعلى للسلطة القضائية والمجلس الوطني لحقوق الانسان، التي كان للالة فاطمة حوار سابق معها، قبل أن يتم تعيينها بالمجلس الوطني لحقوق الإنسان.. بمناسبة اليوم العالمي للمرأة، نعيد نشر نص الحوار.
عائشة الناصري، المرأة، الزوجة، الأم، القاضية، الفاعلة الجمعوية والمسؤولة القضائية. من هي عائشة الناصري من بين هؤلاء؟
أنا كل الذي ذكرتيه. أنا الأم وأقدس الأمومة، لأن سعادتي من سعادة أبنائي، وأعتبر الأسرة هي الحضن والسند للإنسان في مساره وتجاربه في الحياة. فالأمومة شيء مهم وتربية الأبناء مهمة أساسية في حياتي، لأنني أحقق من خلالها ذاتي وأسعى من خلال الأبناء لخلق مواطنين صالحين للمجتمع. وأظن أنني أعطيت الوقت الكافي لأبنائي (ثلاث بنات وولد) الذين يتابعون دراستهم الآن. أما عائشة الحقوقية، فإنني عرفت النضال الحقوقي منذ أن كنت طالبة في كلية الحقوق، حيث ناضلت في صفوف اتحاد طلبة المغرب، وربما قبل ذلك، لأنني أنتمي للجيل الذي درس الفلسفة بالفكر الانساني المتفتح، وكان حلمي أن أتخصص في هذه المادة، لكن عائق دراستها بمدينة الرباط حال دون ذلك. لأنتقل بعد ذلك لدراسة القانون، الذي أحببته، لأنه جعلني أكثر واقعية. لأتوجه بعدها للمجال القضائي الذي اكتشفت فيه نضالا من شكل آخر. فإذا كان دور القاضي هو ضمان وحماية الحقوق والحريات، فما بالك إذا كان متشبعا بحقوق الإنسان ولديه خلفية حقوقية، فأنت تحقق المطلوب من القاضي. لهذا تجدني دائما من المطالبات بتدريس حقوق الإنسان للناشئة وإدماجها بالمعهد العالي للدراسات القضائية. حيث لازلت أذكر أن تشبعي بالهاجس الحقوقي، جعلني أراسل وأطالب من الأستاذ محمد عزيمان عندما تم تعيينه كوزير للعدل بالاشتغال مع الجمعيات النسائية ممثلة في مركز الاستماع والارشاد القانوني للنساء ضحايا العنف، واتحاد العمل النسائي الذي اشتغلت معه على مشروع مدونة الأسرة، كما دفعتني نفس الخلفية الحقوقية إلى مطالبة السيد رئيس المحكمة الابتدائية بسيدي عثمان وقتها بأن أترأس جلسة الأحوال الشخصية بصفتي امرأة قاضية، في الوقت الذي كانت فيه النساء تعاني من ضعف النص القانوني خصوصا في مجال التطليق للضرر، وعدم مواكبة الاجتهاد القضائي للثورة الحقوقية التي بدأ يعرفها المغرب منذ تولي الملك محمد السادس الحكم الذي أعطى إشارات قوية في مجموعة من الخطب الملكية السامية وأسس لدولة الحق والمؤسسات، وهو الأمر الذي استجاب له السيد رئيس المحكمة، حيث ترأست جلسة الأحوال الشخصية، وكان لي شرف إصدار مجموعة من الأحكام جد متقدمة سواء في مجال حماية المحضون من الافراغ أو التطليق لضرر.. حيث كان البعد الحقوقي حاضرا في عملي القضائي، بالإضافة إلى عملي الجمعوي مع العديد من الجمعيات النسائية، كما أنني كنت أيضا عضوة بالمحكمة العربية التي كان مقرها ببيروت، وأشارك سنويا في لجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة.
حظيتم كامرأة قاضية بشرف تعيينكم من قبل صاحب الجلالة وكيلة للملك لدى المحكمة الابتدائية المدنية بالدار البيضاء التي تعتبر من أكبر وأهم محاكم المملكة. كيف تقييمون هذه التجربة؟
بالفعل كان شرف كبير لي ولجميع القاضيات أن أحظى بتعييني من قبل صاحب الجلالة نصره الله وكيلة للملك لدى المحكمة الابتدائية المدنية بالدار البيضاء، والتي تعتبر معلمة قضائية باعتبارها نواة القضاء العصري بالمغرب، تم بناؤها في سنة 1922، وتعاقب عليها منذ بداية العشرينات مسؤولون رجال حتى سنة 2011 بعد تصنيف المحاكم، ليأتي تعييني كأول امرأة وكيلة للملك لدى المحكمة الابتدائية المدنية. ونحن لا نعتبر ذلك مكسبا كبيرا، لأنه لحد الآن لم يتم تعيين أي امرأة بمنصب وكيلة للملك بالمحاكم الزجرية ولا بمنصب وكيل عام، بالرغم من أن المرأة القاضية بدأت الاشتغال في سلك القضاء منذ سنة 1961. وعلى العموم فنحن نثمن الخطوة ونعتبرها مكسبا وتجربة ثمينة، لأننا دائما ننظر إلى الجانب المملوء من الكأس ونناضل من أجل تحقيق مكتسبات أعمق. مع الإشارة إلى أنني مارست القضاء بالرئاسة منذ التحاقي بالقضاء، ثم التحقت بالنيابة العامة وأحببت العمل بها، لأن الوضع مختلف عن القضاء الجالس، فهي تتطلب سرعة البديهة والجرأة في اتخاذ القرار.
هل المرأة القاضية قادرة على تولي المسؤولية القضائية وإدارة الشأن القضائي في وقت لازالت فيه العدالة تعرف أزمة ثقة بين المواطن والقضاء؟
بالتأكيد، لأن تدبيرها لهذا الكم من الملفات التي تعرض على المحاكم يساهم في تسييرها للشأن القضائي، وبالتالي عندما تعطاها المسؤولية، فلا فرق بينها وبين الرجل، هذا الأخير يقوم بنفس المهام التي تقوم بها المرأة كنائبة وكيلة الملك مثلا في الاستماع والبحث واتخاذ القرار، لكن عندما نصل للمسؤولية نجد أنها تعطى للرجل وليس للمرأة. وأنا أتساءل الآن هل كل الرجال نجحوا في مهامهم..؟ فتدبير المحاكم لا يخضع صاحبه للتكوين، بل يتحكم فيه عامل تراكم التجربة والممارسة القضائية سواء مع منصب الرئيس أو الوكيل، ولم يتغير الأمر إلا مع طرح إصلاح منظومة العدالة، حيث تم التفكير في تكوين مسؤولين قضائيين وإداريين. وبالتالي فعدم إسناد المسؤولية القضائية للمرأة القاضية يعتبر حيفا في حق المرأة عموما والمرأة القضائية على وجه خاص والتي ينبغي فسح المجال لها للمساهمة إلى جانب شقيقها القاضي الرجل في العمل على تحقيق الأمن القضائي واسترجاع ثقة المواطنين في العدالة.
ماهي أسباب ابعاد المرأة عن تولي المسؤولية القضائية؟
أحيانا نتلقى جوابا بأن النساء يرفضن المسؤولية، وهن قلة، لكنني أرجع الأمر لفكر ذكوري مهيمن فيه يستند على مراعاة وضعية المرأة، وهذا أمر نثمنه، غير أنه يجب أن لا ننسى أن هناك مناطق قريبة يمكن للقاضية تدبير شؤون محاكمها. وهناك نساء قاضيات مقتدرات في محاكم النقض، في محاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية، قادرات على التدبير ولديهن رغبة فقط يجب أن يطرح الأمر بنوع من الديمقراطية للنساء والشباب كذلك.
هل هذا يعني أننا ممكن أن نرى قريبا قاضيات وكيلات للملك لدى المحاكم الابتدائية الزجرية أو وكيلات عامات للملك أو قاضيات للتحقيق بمحاكم الاستئناف؟
لما لا إذا كانت لديهن رغبة. فهن قادرات على ذلك، حيث راكمن من التجربة ما يكفي لتدبير مثل هذه المناصب.
هل قدمت الجمعية المغربية للمرأة القاضية مطالب في هذا الشأن؟
أكيد. فبحكم التجربة التي راكمتها في العمل الجمعوي منذ سنة 1998، وبعد دستور 2011 فكرت في تأسيس جمعية للمرأة القاضية بعد مشاورة العديد من الزميلات القاضيات اللواتي رحبن بالفكرة. علما أنها الجمعية الوحيدة في العالم العربي الخاصة بالنساء القاضيات. فالهدف الرئيسي من الجمعية كان هو مناهضة التمييز الممارس ضد القاضيات خاصة في الشأن القضائي وتدبير المحاكم. ولدينا الآن عشر مسؤولات قضائيات، سبعة منهن وكيلات الملك بالمحاكم التجارية، وهو المنصب الذي ستتخلى عنه الدولة ضمن مشروع التنظيم القضائي الجديد، لأنه منصب بدون حقيبة ومهام. وأنا أعتبره اهانة للمرأة القاضية وكأنها عاجزة عن تدبير الشأن القضائي. والثلاث الباقيات، واحدة وكيلة الملك بالمحكمة الابتدائية المدنية، والثانية وكيلة الملك بالمحكمة الاجتماعية والثالثة رئيسة بمحكمة بمدينة صغيرة. فلا يمكن القول بأن المرأة التي تتربى على تدبير شؤون الأسرة منذ الصغر وتخلق رجال ونساء الغد غير قادرة على تدبير مسؤولية ملفات وقوانين مسطرة، فالتدبير خاصية تمتاز بها المرأة عن الرجل.. لدينا الآن نساء قاضيات بالعيون، بأكادير، بوجدة، بالمناطق الشمالية..لدينا قاضيات في جميع أنحاء المملكة يمتلكن سمعة طيبة ويعتبرن مدبرات جيدات. ونتمنى أن يتم تجاوز كل هذا في ظل هذا الحراك القانوني والقضائي في إطار إصلاح منظومة العدالة. مع الإشارة إلى أن الجمعية لا تقتصر على المرأة القاضية، بل تهتم بكل القوانين التي تهم النساء وتساهم فيها، حيث ساهمنا في مشروع قانون العنف من خلال ندوة طرح فيها الموضوع للنقاش، ونظمنا كذلك ندوة عن القانون الجنائي، وشاركنا كذلك في ندوتين نظمهما المجلس الوطني لحقوق الإنسان في نفس الموضوع.
اعترف دستور 2011 للقضاة بالحق في تأسيس جمعيات قضائية مهنية والانتماء إليها، والآن نتوفر على خمس أو ست جمعيات. فهل تعتبرون أن هذا التعدد من شأنه خدمة القضاة أم العكس؟
في البداية كانت فرحتنا بالمادة 111 لا تتصور بحرية التعبير وتأسيس الجمعيات المهنية والانتماء إليها. فقمنا بتأسيس جمعية للمرأة القاضية، وقامت الودادية الحسنية للقضاة بتجديد أطرها وقوانينها، كما تأسس أيضا نادي قضاة المغرب، تم توالدت بعد ذلك الجمعيات. وإجمالا أقول بأن تعدد الجمعيات المهنية للقضاة لا يصلح للشأن القضائي، لأننا أصبحنا نعيش تناحرا بين الجمعيات وعداءا بين القضاة أقولها وأتحمل مسؤوليتي.. هذا الوضع خطير جدا على العدالة وتحقيق العدالة للمواطنين. فمهمة القاضي في الدستور واضحة وهي ضمان حريات وحقوق الأفراد والجماعات، والتطبيق العادل للقانون وإصدار أحكام عادلة وفي آجال معقولة.. فالقضاة ليسوا بأحزاب ولا نقابات حتى يمكن تصور تعددهم. فنحن كقضاة وظيفتنا واضحة في الدستور وملزمين بالتحفظ في تعبيرنا ومواقفنا وعلاقتنا، لأن القضاء ملجأ للجميع. وأعتقد أن للتعدد عواقب على المشهد، لأن الأحزاب والنقابات لديها مرجعيات، مشاريع، تصورات واستراتيجيات عمل، كل واحد يحمل مشروع حزبه، وهذا ليس عملنا، لأن وظيفتنا هي إحقاق العدالة وحماية الحقوق والحريات وبالتالي فمشروعنا الأساسي هو تطبيق القانون. صحيح أننا نبدي رأينا في القوانين بدون عداء ولا خصومة، ولكننا نبقى في نفس الوقت ملزمين كقضاة بالحياد، التحفظ، هيبة المنصب ونزاهته واستقلاله. وفي كل الأحوال فإننا لا يجب أن نلوم القضاة، فتجربة العمل الجمعوي وحرية التعبير تبقى جديدة عليهم. خاصة وأن القضاة الشباب لديهم حماس، روح وطنية كبيرة، وغيرة على الشأن القضائي وأحييهم على كل هذا. ومن أجل تلافي سلبيات التعدد الجمعوي فقد قمنا بتأسيس ائتلاف للجمعيات المهنية القضائية يقوم على مبدأ التشاور والتنسيق بين الجمعيات في جميع القضايا الرئيسية التي تهم القضاة والشأن القضائي مع احترام مبدأ استقلال عمل كل جمعية قضائية وفق الأهداف المسطرة في نظامها الأساسي، والذي يتعين دعمه من قبل الجميع، لأن القضاة في حاجة للتضامن والتماسك حماية لأمنهم المهني وتحقيقا للأمن القضائي لعموم المواطنين، فالتفرقة لن تخدم أحدا.
أسال مشروعي القانونين التنظيميين المتعلقين بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية والنظام الأساسي لرجال القضاء الكثير من المداد بين مؤيد ومعارض. ما تعليقكم؟
مشاركتنا في الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة ركزنا فيها على امرين اثنين، وهما استقلال السلطة القضائية والضمانات المخولة للقضاة. بالرجوع لدستور المملكة، فالمغرب اختار بشكل لا رجعة فيه بناء دولة الحق والمؤسسات، فلا يمكن تصور دولة الحق والمؤسسات بدون استقلال السلطة القضائية وبقاء هيمنة السياسي على القضائي.. وأتحدى من يقول بأن هناك دولة وصلت إلى ما وصل له المغرب في بناء دولة الحق والمؤسسات. علما أن استقلال القضاء الجالس غير مطروح، والنقاش انصب على استقلال النيابة العامة بالأساس، حيث كان هناك أخذ ورد، لكن مشروع القانون تبنى في الختام استقلالية النيابة العامة، والتي سيترأسها الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض عوضا عن وزير العدل. وبقيت نقاشات جانبية مطروحة في ما يخص العنصر البشري وربط المسؤولية بالمحاسبة بالنسبة للوكيل العام للملك، وهو ما أجبنا عنه بأنه ليس هناك في القانون ما يمنع أن نمنح للسيد الوكيل العام لدى محكمة النقض أكثر من قبعة، وأن الاستقلال الحقيقي ينبغي أن ينعكس في تدبيرنا للملفات والدعاوى العمومية تجسيدا للقانون وتحقيقا للعدالة، وأنه يجب أن نضع الثقة في القضاة ونشتغل على بناء العنصر البشري وتحصينه بالعلم وتدعيمه بحقوق الإنسان. وعلى العموم أسعدني كثيرا هذا النقاش والجدال الذي عرفته بلادنا ويدل على مناخ ديمقراطي متميز.
في كلمات ماذا تقولين عن:
8 مارس: ذكرى اعادة التفكير فيما وصلت إليه المرأة وما ممكن أن تصل إليه. هو نوع من المحاسبة للمؤسسات والدولة لما حققت للنساء في القرى والمداشر في التعليم والمناصب.. أعتقد أنه يوم لمحاسبة الذات والقييمين على الشؤون النسائية وطرح تساؤلات عن ما حققوه لهذه المرأة التي تصنع الأجيال.
وضع المرأة المغربية في الوقت الراهن: بكل صدق، هناك مكتسبات كثيرة. فالمغرب ومنذ تولي صاحب الجلالة الملك محمد السادس الحكم وهو يؤكد على حقوق النساء وتمكنيهن من المكتسبات. وجاء الدستور لدسترة الحقوق والمساواة والمناصفة، هذه كلها مكاسب. يجب تثمين المجهودات، فالإصلاح ليس عصا سحرية تقلب المجتمع بين يوم وليلة.. فالمجتمع عبارة عن أجيال وعقليات وثقافات.
مشروع القانون الجنائي الذي تضمن لأول مرة تجريم التحرش الجنسي خارج مقر العمل: هذا مكسب لحماية كرامة المرأة بالدرجة الأولى، فيه تربية على حقوق النساء، وتربية المتحرشين بالنساء في الشارع، وهو نوع آخر من التربية على احترام حقوق الآخر واحترام حقوق النساء. التجريم جاء في محله وفي توقيته. لا وصاية على النساء، والبنت خاضعة لتربية أسرتها إذا كانت قاصر، وليس لأي كان أن يتدخل، لأنه ليس وصيا ومسؤولا عليها. المرأة انسان لها وجودها، كرامتها وهي نصف المجتمع يجب أن نحترمها، وعلى العقليات أن تواكب النصوص.