لم تكن أخبار ” الأب القاتل” يوماً مجرد خبر عابر، لكنها تحولت مؤخراً إلى صدمات متتالية هزت الوجدان العالمي. من فاجعة أب في سورينام أنهى حياة أطفاله الأربعة بدم بارد، إلى مأساة مماثلة في سوريا حيث تحول السند إلى مقصلة. يطرح السؤال نفسه بحدة: كيف يمكن لغريزة الأبوة أن تموت؟ وهل نحن أمام انهيار قيمي أم أن خلف الأبواب المغلقة شياطين أخرى لا نراها؟
غريزة في مهب الريح
بعيداً عن التحليلات السطحية التي ترمي باللوم فقط على تراجع الأخلاق . تذهب الاختصاصية بشرى المرابطي، الاختصاصية في علم النفس الاجتماعي، إلى عمق الجاني. حيث تؤكد أن هذه الجرائم، رغم بشاعتها، لا تزال حالات معزولة وليست ظاهرة عامة، لكنها تكشف عن معاناة نفسية وعقلية حادة.
أصوات تأمر بالقتل: ” فخ الذهان”
تضع الاختصاصية المرابطي الاضطرابات الذهانية في مقدمة الأسباب. وتوضح: “أول هذه الأسباب هي اضطرابات ذهانية يعانيها الإنسان، حيث يسمع مجموعة من الأصوات (هلوسات سمعية وبصرية) تدفعه للقيام بذلك”.
في حالات الفصام (الاسكيزوفرينيا)، لا يعود الأب سيد قراره؛ بل يصبح أسيراً لأوامر ملحة ومنفصلة عن الواقع. ولا يتوقف الأمر عند الفصام، بل يمتد إلى البرانوية (الشك المرضي)، حيث يتخيل الأب أخطاراً وهمية تحيط بأطفاله، فيقتلهم و أحيانا يرى أن الأمر نوعا من “الرحمة المزعومة” ليرسلهم إلى الجنة بعيداً عن عذاب الدنيا.
الانتقام بالوكالة: حين يشتعل حقد الزوجين
خلف بعض هذه الجرائم تكمن “تصفية حسابات” دموية. تشير الاختصاصية إلى أن الخلافات الزوجية الحادة قد تجعل الأب يرى في أطفاله وسيلة لإيقاع أقصى ألم ممكن بالشريكة. وتستشهد المرابطي بحالة لمغاربة في الخارج، حيث أقدم أب على قتل أطفاله انتقاماً من زوجته بعد الطلاق، مدعياً أنه كان ضحية لـ “اضطهاد نفسي”من طرف زوجته . هنا، لا يصبح الطفل ابناً، بل “أداة انتقام” في معركة خاسرة.
الفقر والمخدرات: محفزات الانهيار
لم تغفل الاختصاصية المرابطي الجانب الاجتماعي والاقتصادي؛ فالإحباط المتراكم في العمل، والديون الخانقة، والظروف المعيشية الصعبة، قد تؤدي إلى “تفكير سوداوي”. في هذه اللحظة، يقرر الأب الانتحار، لكنه يرفض ترك أطفاله لمواجهة المعاناة من بعده، فينهي حياتهم كـ”خلاص” أخير. كما تلعب المخدرات الصلبة دوراً تدميرياً عبر غياب الإدراك والتمييز، مما يدفع الشخص لحالة من الهيجان القاتل.
التحول الدرامي: علامات تحذيرية تجاهلها الجميع
تقول الاختصاصية المرابطي إن هذه الجرائم لا تسقط من السماء فجأة، بل تسبقها إشارات:” في الحقيقة هذه الاضطرابات لا تأتي فجأة هكذا، ولكنها تتحول وتتطور و تظهر أعراضها تدريجيا … “
- الهلوسة الملحوظة: التحدث عن أشخاص غير موجودين أو وقائع وهمية. تقول الاختصاصية المرابطي : “يظهر أن الإنسان بدأ يتحدث عن أحداث غير موجودة. يقول مثلا جاءني فلان وذلك الشخص لم يأتي إلى البيت ، سمعت كذا ولا يوجد أدنى دليل على أن ذلك الكلام قد قيل”
- الانعزال والسوداوية: التحول من شخص طبيعي إلى كتلة من الشكوك واليأس.
- التهديد المبطن: التلميح بالرغبة في “إراحة” الجميع من الحياة.
وتحذر المرابطي: “الأسرة مع إيقاع الحياة وضغوطها قد لا تنتبه لهذه الأعراض، لكن الحقيقة أن المحيط بالكامل يكون في خطر حين تبدأ هذه الهلوسات بالظهور”.
الصرخة الأخيرة: لا تنتظروا الكارثة
تختم الأختصاصية المرابطي تحليلها بنصائح وقائية؛ فالمرض الذهاني لا يعالج بمجرد الأدوية المنزلية، بل يتطلب استشفاءً طويلاً ورقابة طبية صارمة.
وتوجه نداءً للعائلات: إذا رفض المريض العلاج، لا تقفوا مكتوفي الأيدي. الجأوا للسلطات المختصة (وكيل الملك) لإجباره على الاستشفاء، أو استعينوا بالعائلة الكبرى للضغط. حماية الأبناء تبدأ من الاعتراف بأن “الأب ليس بخير”، وأن الصمت عن المرض النفسي هو أول خطوة في طريق الجريمة.
بينما ننتظر حكم القضاء في قضايا سورينام وسوريا، يبقى الدرس الأهم أن خلف كل “أب وحش” قصة انكسار عقلي أو اجتماعي كان يمكن تداركها. الأبوة ليست مجرد لقب، بل هي توازن نفسي يتطلب من المجتمع أن يكون “الرادار” الذي يلتقط إشارات الخطر قبل أن تتحول إلى دماء على صفحات الحوادث.