عاشت جنوب ويلز حالة من الرعب لم تعرف لها مثيل في بداية سبعينيات القرن الماضي ، حين بدأت فتيات مراهقات في الاختفاء بعد سهراتهن في النوادي الليلية. كانت جرائم القتل مروعة، والقاتل مجهول، والقلق يسكن كل منزل. لكن مرت عقود قبل أن يكشف النقاب عن مرتكب هذه الجرائم البشعة الذي سيعرف لاحقاً باسم “قاتل ليلة السبت”.
جرائم القتل: بداية الرعب
في صباح 16 سبتمبر 1973، عثرت الشرطة على جثتي جيرالدين هيوز وبولين فلويد، صديقتين تبلغان من العمر 16 عامًا، مقتولتين في منطقة مشجرة بالقرب من لاندارسي. كانتا قد خرجتا في الليلة السابقة للرقص في ملهى “توب رانك” الشهير في سوانزي. أظهرت تقارير التشريح أنهما تعرضتا للاغتصاب قبل أن يتم خنقهما وتركهما للموت.
التحقيقات قادها أكثر من 150 محققًا، لتصبح أكبر عملية بحث جنائي في تاريخ ويلز. بعد عام تقريبًا، تم ربط الجريمة بجريمة أخرى وقعت في يوليو 1973 وراحت ضحيتها فتاة تدعى ساندرا نيوتن، مما أدى إلى إطلاق لقب “قاتل ليلة السبت” على القاتل.

جو كابن: السفاح الذي كان في متناول اليد
كان جو كابن، سائق حافلة يبلغ من العمر 31 عامًا في ذلك الوقت، من بين آلاف الأشخاص الذين شملتهم التحقيقات، بل وتم استجوابه، لكن زوجته قدمت له حجة غياب أقنعت الشرطة، فخرج من دائرة الشبهات.
وكانت أوصاف الجاني معروفة: شعر كثيف، شارب، وعمر تقديري، بل وحتى نوع السيارة التي يقودها، لكن هذه التفاصيل لم تكن كافية. في غياب الأدلة القاطعة، بقي كابن حرًا، يختلط بالناس، وربما يمر بجوار عائلات الضحايا دون أن يثير أي شك.

ثورة علمية: حين تحدث الحمض النووي
مرت ثلاثون عامًا، وتغيرت أدوات التحقيق. في أوائل الألفية الجديدة، قررت شرطة جنوب ويلز إعادة فتح القضية مستفيدة من التقدم الكبير في علم الأدلة الجنائية، وتحديدًا في تحليل الحمض النووي.
العلماء كانوا يحتفظون بعينات من السائل المنوي الذي وجد على أجساد الضحايا، وباستخدام تقنيات الحمض النووي العائلي، قرروا البحث. ليس عن القاتل نفسه، بل عن أبنائه المحتملين.
كانت هذه تقنية ثورية وقتها: البحث في قواعد البيانات عن أشخاص يتشاركون جزءًا كبيرًا من البصمة الوراثية مع الجاني. وبعد تصفية البيانات، تم الوصول إلى حوالي 100 اسم تطابقت بصماتهم الوراثية جزئيًا مع تلك التي عثر عليها في مسرح الجريمة أي أنهم قد يكونون أبناء القاتل.
الحقيقة المدفونة
جاء اسم جو كابن مرة أخرى، لكنه كان قد توفي في عام 1990 نتيجة إصابته بسرطان الرئة. لم يكن هناك مفرّ: قررت السلطات استخراج جثته لإجراء فحص الحمض النووي.
وجاءت النتائج صادمة وحاسمة — تطابق تام بين حمضه النووي والعينات المأخوذة من أجساد الضحايا. بعد 30 عامًا من الغموض والمعاناة، تم التعرف على القاتل أخيرًا.
قالت جولي بيغلي، ابنة عمة الضحية جيرالدين:
“لا توجد كلمات تصف شعورنا. كنا نعيش على أمل أن نعرف الحقيقة يومًا ما. لقد كانت جيرالدين فتاة رائعة، مليئة بالحياة والفرح.”
عدالة متأخرة لكنها عادلة
القضية أعادت الأمل لعائلات الضحايا، وألهمت مسلسل الجريمة الحقيقية “Steeltown Murders” الذي أعاد تسليط الضوء على تلك الليالي السوداء. أما جان هيوز، والدة جيرالدين، فقالت عقب كشف الحقيقة:
“أنت تعرف أن الشر موجود، لكن لا تتوقع أبدًا أن يطرق بابك. عندما يحدث، يتحول الأمر إلى حكم بالسجن مدى الحياة. واليوم، يمكننا أن نغلق هذا الفصل المؤلم إلى الأبد.”

الحمض النووي العائلي: أداة لكشف المستور
أصبحت تقنية الحمض النووي العائلي نقطة تحول في تاريخ التحقيقات الجنائية. فعندما لا يتم العثور على تطابق مباشر، يمكن البحث عن أقارب الجاني من خلال المؤشرات الوراثية المشتركة، ثم تضييق الدائرة بناءً على السن والمكان والظروف.
هكذا، حتى بعد الموت، لم يتمكن جو كابن من الهروب من عدالة العلم.
قضية “قاتل ليلة السبت” لم تكن مجرد جريمة، بل كانت مثالاً على صبر العدالة، وعلى أن بعض القضايا، مهما طال الزمن، لا تنسى… ولا تغلق إلا عندما تقال الحقيقة كاملة.